إيران وفلسطين وإسرائيل- صراع الشرق الأوسط الجديد المتصاعد

مدخل لا بدّ منه
منذ ما يربو على أربعة عقود، وبالتحديد عقب تأسيس "الجمهورية الإسلامية" في إيران تحت قيادة آية الله الخميني، ومع انتهاء حقبة حكم الشاه، بدأت معالم سياسة خارجية جديدة تظهر وتتشكل. فسرعان ما صرح الخميني، في مناسبات عديدة، بأن "إسرائيل" ما هي إلا غدة سرطانية متوغلة في قلب العالم الإسلامي، ولا مناص من استئصالها والقضاء عليها. وكان من أولى الإجراءات التي اتُخذت لتبديل السياسات هو تحويل مقر السفارة الإسرائيلية في طهران إلى سفارة لدولة فلسطين، وتسليمها إلى الزعيم الراحل ياسر عرفات.
وهذا التوجه، بغض النظر عن أي تفسيرات وتحليلات تتعلق بنوايا الجمهورية الإسلامية، يدل بوضوح على أن قضية فلسطين تحتل مكانة رفيعة في صميم السياسة الإيرانية. ولم يقتصر الأمر على مجرد ترديد الشعارات، بل انطلقت الجمهورية الإسلامية منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي في إقامة علاقات متينة مع حركات التحرر الفلسطينية المختلفة، بما في ذلك حركة فتح بزعامة ياسر عرفات. وشهدت شوارع العاصمة طهران حينها أضخم المظاهرات الداعمة لفلسطين خلال الزيارة التي قام بها عرفات إلى إيران.
وتطورت وتوسعت شبكة العلاقات والروابط بين الجمهورية الإسلامية وحركات التحرر الفلسطينية بشكل تدريجي لتأخذ طابعًا فريدًا ومميزًا، وبوجه خاص مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي. ولم يكن يخفى على أحد أن الجمهورية الإسلامية باتت تمثل الداعم الأساسي والمحوري لحركات المقاومة في فلسطين، وخصوصًا هاتين الحركتين.
وبالانطلاق من هذا المنطلق، يمكن فهم أن طبيعة العلاقة بين الجمهورية الإيرانية وفلسطين، سواء في عهد الخميني أو من بعده في عهد خامنئي، تختلف اختلافًا جوهريًا وكبيرًا عن علاقتها بفلسطين في فترة حكم الشاه، حينما كانت إيران بمثابة إحدى الباحات الخلفية لجهاز الموساد الإسرائيلي، وعميلاً مطيعًا للولايات المتحدة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط.
وهذا المدخل يساعدنا على فهم الأحداث الجارية اليوم، وربما ما سيحدث في المستقبل القريب والبعيد، بين الجمهورية الإسلامية ودولة إسرائيل، باعتبار الأخيرة دولة احتلال غاشم لفلسطين، التي تعتبر أرضًا محتلة يجب تحريرها واستعادتها، وفقًا للعقيدة الإيرانية الراسخة، ولا سيما لدى المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية والحرس الثوري الإيراني.
لماذا الحرب على إيران الآن؟
إن فكرة شن هجوم عسكري على الجمهورية الإسلامية ليست وليدة اللحظة أو جديدة. فلم يستيقظ نتنياهو فجأة على حلم أو رؤية قرر على إثرها مهاجمة إيران. بل إنه كان يطرح هذه الفكرة منذ ما لا يقل عن خمسة عشر عامًا، محذرًا في كل مناسبة ومنتدى من أن "إيران على وشك امتلاك السلاح النووي"، وهو ما اعتُبر في العقل الإسرائيلي الجمعي التهديد الأكبر الذي يواجه دولة إسرائيل.
إلا أن التردد الإسرائيلي في الإقدام على هذه الخطوة، أي شن الهجوم، كان نابعًا من القلق العميق إزاء ردة فعل حلفاء الجمهورية الإسلامية في المنطقة. ففي حال اندلاع حرب، كان من الوارد جدًا أن تُفتح جبهات قتال متعددة على امتداد ما يسمى بـ "محور المقاومة". لذا، كان التريث وانتظار اللحظة الأكثر ملاءمة للهجوم على إيران هو المسيطر على الموقف الإسرائيلي، دون التخلي عن الطموحات الجامحة في التوسع الإقليمي.
إسرائيل والطوفان وعنصر المباغتة!
لم يكن خافيًا على أحد أن كتائب القسام أعلنت مرارًا وتكرارًا امتلاكها لمعلومات استخباراتية دقيقة وموثوقة، وقد أقرّ بصحة هذه المعلومات بعض القادة العسكريين والأمنيين في إسرائيل، تفيد بأن الاحتلال كان يخطط لشن هجوم واسع النطاق ومباغت على حركات المقاومة الفلسطينية، في محاولة سافرة لإضعاف النفوذ الإيراني المتنامي، على أن يبدأ هذا الهجوم من قطاع غزة، عبر استهداف حركتي حماس والجهاد الإسلامي، والقضاء التام على قياداتهما.
غير أن المقاومة الفلسطينية، وخاصة حركة حماس، استبقت هذا الهجوم المرتقب بشن هجوم مضاد مفاجئ أطلقت عليه اسم "طوفان الأقصى"، ولا تزال تداعياته وآثاره مستمرة حتى يومنا هذا. ومع تصاعد حالة الصدمة والذهول في إسرائيل جراء هذه الضربة الموجعة، بدأ المشروع الصهيوني يتجلى ويتكشف علنًا، من خلال إعلان نتنياهو المتكرر أنه عازم على "تغيير الشرق الأوسط" باتجاه "شرق أوسط جديد". وكان نتنياهو قد كشف عن ملامح هذا المشروع في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر/أيلول من عام 2023، أي قبل عملية "طوفان الأقصى" بأسابيع قليلة، حين تحدث عن "إسرائيل الكبرى الجديدة".
وكانت الولايات المتحدة الأميركية تقف بقوة خلف هذا التوجه الخطير، مدعومة ببعض الحلفاء المؤثرين والفاعلين في المنطقة.
الشرق الأوسط الجديد!
إن فكرة "الشرق الأوسط الجديد" ليست فكرة مستحدثة أو طارئة، فقد سبق أن تحدث عنها شيمون بيريز، رئيس الوزراء الأسبق لدولة الاحتلال الإسرائيلي، في كتابه الشهير الذي يحمل نفس العنوان. وكان بيريز يرى أن تحقيق السلام الشامل والازدهار الاقتصادي مع الدول المجاورة، وبشكل عام في جميع أنحاء المنطقة، هو السبيل الأمثل لتحقيق هذه الرؤية الطموحة.
إلا أن هذه الفكرة واجهت العديد من العقبات والتحديات التي حالت دون تحقيقها، ومن أبرزها وجود حركات مقاومة قوية، وخاصة في فلسطين، التي تبنت نهج "وحدة الساحات" كاستراتيجية رئيسية في نضالها المرير ضد الاحتلال. ومع مرور أكثر من قرن كامل على اتفاقية سايكس بيكو المشؤومة، وتآكل أنظمة التجزئة والتقسيم في المنطقة، ظهرت رغبة إسرائيلية عارمة في فرض "شرق أوسط جديد" يمنحها قرنًا آخر من السيطرة والهيمنة على المنطقة.
ومضى الأمر قدمًا لتحقيق ذلك فيما يشبه توزيع الأدوار والمهام: حيث تركز الولايات المتحدة الأميركية بشكل أساسي على جبهتي أوروبا وروسيا، وتراقب عن كثب صعود قوة الصين المتنامية، بينما تتولى إسرائيل مهمة التصدي لحركات المقاومة في المنطقة وقمعها.
ولكن يبقى السؤال المطروح: هل سينجح هذا المشروع الطموح المتمثل في "الشرق الأوسط الجديد"؟
لكي يكتب النجاح لهذه الفكرة، لا بد من تحقق أربعة مرتكزات أساسية:
وجود رغبة حقيقية وصادقة لدى كل من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل. توفير أنظمة فاعلة وقادرة على دعم وتحقيق هذه الفكرة على أرض الواقع. القضاء التام على حركات المقاومة المنتشرة في المنطقة، بالإضافة إلى مناصريها وداعميها. غياب الوعي الشعبي العربي والإسلامي، إضافة إلى تضاؤل دعم الأحرار في جميع أنحاء العالم.
وبالتأمل العميق في هذه المحددات والمرتكزات، يتضح جليًا أن أولها فقط هو المتحقق، أما بقية المحددات، وخاصة القضاء على المقاومة، فهي مستبعدة تمامًا. فالمقاومة الفلسطينية، على الرغم من كل ما تعرضت له من صعاب وتحديات جمة خلال العامين الماضيين، ما تزال حية وصامدة، وتخوض حرب استنزاف مؤلمة وموجعة ضد الاحتلال الإسرائيلي. فهل يعقل أن يعجز الاحتلال عن القضاء على مقاومة صغيرة في قطاع غزة، ثم ينجح في القضاء على دولة كبيرة بحجم إيران؟
هل ستنتهي إيران الآن؟
لم يكن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أبدًا بعيدًا عن مشروع "الشرق الأوسط الجديد" بشكل أو بآخر، فقد ساهمت سياساته بشكل كبير في تشكيل المناخ والظروف السائدة في المنطقة. فقد اختار الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني في ولايته الأولى، وكان من أبرز الداعمين لإسرائيل، من خلال نقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة، والاعتراف بالجولان السوري المحتل كجزء لا يتجزأ من إسرائيل.
ولكنه في الوقت نفسه، رفع في الأشهر الأخيرة من ولايته شعار الدبلوماسية والحوار مع الجمهورية الإسلامية، ووضع سقفًا زمنيًا محددًا مدته شهران للتوصل إلى اتفاق يراعي المقاس والمعايير الأميركية.
وفيما خفي من الصورة وتوارى عن الأنظار، ظل التنسيق الوثيق قائمًا بين واشنطن وتل أبيب بشأن المفاوضات مع إيران، والتي اعتُقد أنها ستكون هدفًا يسيرًا يمكن الانتهاء منه خلال أيام معدودات، كما حدث مع حزب الله في لبنان. إلا أن هذا التصور الخاطئ أغفل حقيقة أن إيران، التي ترفع شعار تدمير إسرائيل منذ ما يربو على أربعة عقود، لا يمكن أن تكون غافلة ونائمة طوال تلك العقود لتصبح "لقمة سائغة".
ومع انقضاء المهلة الزمنية التي حددها ترامب، وجهت إسرائيل ضربة مباغتة ومكلفة لإيران، كشفت عن وجود اختراق أمني خطير داخل الجمهورية الإسلامية. إلا أن إيران، على الرغم من ذلك، استوعبت الضربة سريعًا وبدأت في الرد، فوجدت إسرائيل نفسها في مأزق حقيقي، مطالبةً بالتدخل الأميركي لإنقاذها.
ودخلت أميركا الحرب!
اندلعت الحرب بالفعل، وبدأت جولات قتالية متعددة الأطراف بين إسرائيل والجمهورية الإسلامية. ولم تستطع إسرائيل تنفيذ ضربة فعالة ومؤثرة على المنشآت النووية الإيرانية دون دعم مباشر من الولايات المتحدة الأميركية، التي لم تكن غائبة منذ البداية، بل شاركت بفاعلية على الصعيد السياسي والإعلامي والأمني واللوجستي.
وتحقق التدخل العسكري المباشر، الذي سبقته خدعة "مهلة الأسبوعين". وجاءت الضربة المفاجئة فجر يوم السبت على مفاعلات فوردو ونطنز وأصفهان، وتضاربت التقارير بشأن مدى الضرر الفعلي الذي لحق بها.
ورد ترامب بالدعوة إلى السلام والعودة إلى طاولة المفاوضات، على طريقة: "السلام بالقوة". وردت إيران مساء يوم الاثنين بقصف محدود على قاعدة العديد في قطر، التي كانت قد أُخليت مسبقًا.
إلا أن إيران لم توسع بأي حال من الأحوال نطاق ردها ضد الولايات المتحدة الأميركية، وركزت في المقابل على مواصلة قصف إسرائيل، دون أن تلمح ولو تلميحًا بسيطًا إلى نيتها وقف الحرب. وهنا، أتصور أن هناك مجموعة من الأسباب المقنعة التي دفعت الإيرانيين إلى عدم توسيع مساحة الرد على القواعد الأميركية المنتشرة في المنطقة، وتتلخص هذه الأسباب فيما يلي:
عدم رغبة إيران في الدخول في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية، لإدراكها التام لحجم الرد المحتمل وقوته التدميرية. عدم استعداد القوى الصديقة لإيران لخوض مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة الأميركية، مما أضعف موقفها. تراجع قدرة بعض حلفاء إيران، الذين كانت تعول عليهم في دعمها ومساندتها. وجود اختراق أمني محتمل داخل إيران حال دون اتخاذ قرار بالمواجهة المفتوحة.
وفي صباح يوم الثلاثاء، أعلنت دولة قطر الشقيقة عن قيامها بوساطة بطلب أميركي، للضغط على إيران من أجل وقف إطلاق النار مع إسرائيل.
وأعتقد هنا أن إسرائيل في حاجة ماسة لوقف إطلاق النار أكثر من إيران، وذلك لأسباب عديدة منها:
عجز إسرائيل الواضح عن تحمل الخسائر الفادحة الناجمة عن الضربات الإيرانية المتكررة. عدم رغبتها بتاتًا في خوض حرب طويلة الأمد، بينما تؤكد إيران أنها مستعدة لخوض مثل هذه الحرب.
بقيت نقطة مهمة وهي ما بعد وقف إطلاق النار، فهل سيذهب الإيرانيون إلى المفاوضات أم لا؟
من المرجح بشكل كبير أن إيران ستقبل الذهاب إلى المفاوضات، ولكن ليس بمنطق المستسلم والخاضع كما أراد الرئيس الأميركي السابق ترامب، بل كطرف منتصر يشعر بالفخر لصموده الأسطوري في وجه إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية معًا، وإفشاله لمحاولة إسقاط النظام الإيراني من خلال خلايا داخلية تم تدريبها وتسليحها لهذا الغرض.
ستتفاوض إيران، ولكنها ستبقي طلقة رصاص جاهزة في مسدسها، تحسبًا لأي تصعيد قد تقوم به دولة الاحتلال الإسرائيلي.
هذه مجرد جولة من جولات الصراع الطويل بين دولة الاحتلال والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهي ليست نهاية الحرب بأي حال من الأحوال. بل ستتبعها جولات عديدة قادمة، ولا أظن أن المسافات الزمنية ستطول بين هذه الجولات. وهي جولات تهدف في المقام الأول إلى مشاغلة العدو، والوقوف سدًا منيعًا في وجه فكرة "الشرق الأوسط الجديد".